ومن الأحزان ما قتل!
محمد شومان ـ هـاني بركـات
مأساة إنسانية مروعة, تلك التي شهدتها منطقة أبو النمرس أثارت شجون
الكثيرين الذين تعاطفوا مع هذا المشهد الإنساني شديد القسوة وربما هو فوق
طاقة البشر لأنها دراما إنسانية قلما تحدث علي مسرح الحياة..
يمكن أن نطلق عليها من الحزن ما قتل أو من الحب ما ندر.. فكانت البداية
عندما شاهدت الأم كابوسا انتهي بمصرع أحد أبنائها وبعدها بعدة أيام يموت
بالفعل احد أبنائها ولكن ليس من حلمت به الأم فيتجمع الاخوة والأشقاء لدفن
شقيقهم المتوفي ومواساة والدتهم وأبناء شقيقهم ولم تفارق الدموع عيونهم
لمدة ثلاثة أيام هي فترة تلقي العزاء وفي اليوم الرابع وخلال جلوس الأبناء
حول والدتهم العجوز لمواساتها إنهار أحدهم في البكاء عندما تذكر شقيقه
المتوفي, وفجأة سقط صريعا وقبل ان يتمكن الأشقاء من استيعاب حقيقة الموقف
فوجئوا بسقوط آخر وخلال لحظات معدودة سقط الأخ الثالث.. الكل كان يعتقد
ان الاخوة سقطوا في نوبة غابوا خلالها عن الوعي الا ان الأطباء أكدوا مصرع
اثنين منهم وتم انقاذ الثالث.
وقعت تلك المأساة وسط أبناء أسرة واحدة وكأنها وقعت لتؤكد ان الحب مازال
موجودا والرحمة لايزال لها مكان علي الارض.. وكان اسرة المرحوم صبحي سعيد
الدلال هي خير دليل علي ذلك فلقد كان الأب واحدا من أصحاب السيرة الحميدة
بقرية أبو النمرس لدرجة ان أهالي القرية لقبوه بالعمدة والذي توفي تاركا
سبعة أبناء وبنتين يعمل الاولاد كلهم كباعة جائلين للأدوات المنزلية
وبطبيعة مهنتهم التي تعتمد علي التنقل والترحال تفرق الابناء بين محافظات
مصر المختلفة سعيا وراء لقمة عيش شريفة ومنهم من يعمل في سوريا في نفس
المهنة وعلي الرغم من ان لقمةالعيش قد فرقت الاشقاء فإن الحب والارتباط
الوجداني يربط بينهم وكذلك كان شهر رمضان المبارك من كل عام هو موعد لقاء
الأشقاء والاخوة فيعملون طوال العام كل منهم في مكانه ويجتمعون في منزل
الأسرة في شهر رمضان ليقضوا الشهر مع والدتهم ولكن كان شهر رمضان من هذا
العام موعدا لتفرقهم وبالتحديد في مساء يوم8 من رمضان الماضي خرج الأخ
الاكبر ممدوح(51 عاما) لاحضار وجبة السحور من احد المحال المجاورة
وأمامه سقط علي الارض متوفي وبعد ان استقبل أشقاؤه عزاءه لمدة ثلاثة ايام
وتحول تجمعهم للاحتفال بالشهر الكريم الي حزن وفراق وفي مساء يوم12 رمضان
اليوم الرابع من وفاة ممدوح تجمع الأشقاء بجوار والدتهم في وقت السحور
ودخل كل من ماهر وسعيد في نوبة من البكاء الشديد حزنا علي وفاة شقيقهما
الأكبروفجأة سقط سعيد(48 عاما) علي الأرض وفي نفس اللحظة سقط ماهر(38
عاما) فوقه علي الارض ايضا وتوفي الاثنان في نفس اللحظة ودخل شقيقهم
الاصغر رضا فوقع علي الارض مصابا بهبوط حاد في الدورة الدموية من هول
الصدمة.
وفي منزل ريفي بسيط من طابق واحد سقفه من الخشب التقينا الأم قدرية حمزاوي
تجلس علي سرير مبني من الطوب وحولها مابقي من ابنائها واحفادها كل منهم
يجلس شاردا في واد وكأنهم في كابوس ينتظرون ان يفيقوا منه وقالت الأم
بأسي: أنا جليسة الفراش منذ عشرين عاما لاصابتي بروماتويد في قدمي فلا
أستطيع الحركة, وبكلمات اختلطت بالدموع تقول: توفي ابني ممدوح فجأة
وكنت قد حلمت قبلها بيومين بوفاة ماهر وقد حكيت لابنتي هذا الحلم, وهنا
تقول الابنة حنان: بعد ان حكت لي والدتي هذا الحلم وبعد وفاة ممدوح وفي
اليوم الرابع لوفاته اجتمع اشقائي وأثناء ذلك أخبرت ماهر بحلم والدتنا
وأنها حلمت بوفاته فتوفي ممدوح, فرد علي قائلا ومايدريك لعلي أموت الآن
أو بعدها بدقائق وفي نفس الجلسة ولم نغادر مكاننا سقط ماهر علي الارض وفوقه
سعيد في نفس اللحظة.
ويقول وحيد ـ أحد الأشقاء والدموع تسبق كلماته: انا وأشقائي نعمل باعة
جائلين للأدوات المنزلية منذ صغرنا وعملنا ليس له دخل ثابت وكنا نعيش في
حالنا وبعد ان توفي شقيقي الأكبر ممدوح أصابنا الحزن الشديد وكأن الوقت
الذي نتجمع فيه من كل عام كان موعدا لتفرقنا حيث كان يعمل المرحوم ماهر
بالاسكندرية شقيقي ونبيل ايضا بالاسكندرية والمرحوم سعيد بالواحات وخالد
ورضا في سوريا ومعهما شقيقتي أمل وانا وممدوح وحنان نعيش هنا في ابو النمرس
بعد وفاة اخي ممدوح وبعد تلقينا العزاء فيه وفي اليوم الرابع جلسنا ومعا
وكلنا لايصدق انه توفي وكما ذكرت والدتي سقط سعيد وماهر علي الارض بعد نوبة
بكاء شديد ودخل اخي رضا من الخارج فسقط علي الارض مفشيا عليه وهنا صرخت,
أشقائي اخوتي وأحضر الجيران طبيب الوحدة الصحية بأبو النمرس والذي اكتشف
وفاة شقيقي سعيد وماهر ولكن خوفا علي وعلي اسرتي لم يبح بشيء وقال لأحد
الجيران لقد توفيا ولكني لم أصدق وجريت لطيب آخر في أبو النمرس والذي اكد
ماقاله طبيب الوحدة الصحية ولكني رفضت وأصررت علي نقلهما الي المستشفي
وذهبنا بهما الي مستشفي ام المصريين وهناك تأكد وفاة سعيد وماهر وتم انقاذ
شقيقي رضا فكدت أجن فبعد ان كنا نجلس سويا منذ لحظات توفي سعيد وماهر
اللذان كانا يواسيان والدتي لدرجة أنهما كان قبل موتهما بلحظات يضعان لامي
الطعام في فمها لانها كانت ترفض الاكل حزنا علي شقيقي ممدوح ويقول يوسف
الابن الاكبر لممدوح صحبي الدلال ان ابي قبل وفاته بيومين وأثناء جلوسنا
معا لتناول وجبة السحور قال لي استعد فسوف أزوجك بعد رمضان نقلت له كيف يا
أبي وأنا لم أجهز شقتي بالاضافة الي اننا علينا ديون كثيرة ينبغي ان نسددها
اولا فقال لي انني سوف ابذل قصاري جهدي لكي أزوجك وان مت فسدد انت الدين
عني فقد أصبحت رجلا وكأن الحديث كان تمهيدا لتحمل مسئولية شقيقاتي الاربع
اما زينب11 عاما الأخت الصغري ليوسف وابنة ممدوح فتقول ببرائة الأطفال
نفسي اكون دكتورة زي بابا ماكان عاوز وعشان اعالج رجل جدتي حتي تستطيع
المشي ورضا وهو الشقيق الأصغر والمقيم في سوريا فقد كان شاردا بعيدا عن
الجميع وهو الذي عاش لحظات الموت مع شقيقه سعيد وماهر ولكن القدر شاء ان
ينجو من الموت ويقول الجميع انه منذ خروجه من المستشفي وهو في حالة صمت
لايريد الحديث مع احد.
الكل متأثر وحزين ويلتف الجميع حول الام فالداخل والخارج يقبل يدها ويشعرون
وكأنها مصدر الدفء ومحطة الامان للكبير والصغير فالاحفاد والأبناء الكل
يجلس بجاورها وتشعر انهم خائفون ان يفقدوا احدا اخر منهم فالكل يجدها
ويحتمي بها رغم انها أكثرهم تأثرا ويرفع أذان العصر وتنهمر معه دموع الام
ويرتفع صوتها بالدعاء لأبنائها الذين توفوا ويردد الباقون الدعاء خلقها..
والدموع هي لغة العيون هناك. مأساة انسانية تعيشها هذه الأسرة تتخللها
ملحمة حب رائعة نقف امامها مكتوفي الايدي ونتمني أن يرزق الله هذه الاسرة
الصبر والسلوان ولكن يبقي ان هذه المأساة قد خلفت وراءها العديد من الضحايا
فقد تركت ثلاث آرامل وثمانية أيتام هم ضحايا هذه المأساة حيث توفي
المسئولون عنهم ولم يتركوا لهم معاشا او إرثا يقتاتون منه حيث ان عملهم
الوحيد كان باعة جائلين ليس لهم الا مايحصلون عليه يوميا من حصيلة بيعهم
وكما يقول شقيقهم وحيد فإن ذويهم كانوا يوما يكسبون خمسة جنيهات ويوما
خمسين جنيه وآخر يعودون كما يخرجون ولكن الحقيقة التي لايستطيع احد ان
ينكرها ان الذي خلقهم لن ينساهم.
ويجمع هذه الحالة الانسانية المليئة بالحب حتي الموت بين اشقاء ليس املاك
ولا أطيان ولكنهم يملكون حبا صادقا لبعضهم بين جنبات صدور هم تكون واعظا
لكل أخ حاول في يوم من الأيام التعدي علي اخية او الوقوف امامه في المحاكم
او ظلمه